ثورة "الخبز والورد" وتداعيات الأزمة الاقتصاديّة
في ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، خرجت اللبنانيات للتظاهر ضد تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانعكاساتها على كافة المستويات الحياتية حاملات الورود وقارعات الطناجر في مشهد فيه الكثير من التشابه مع ثورة "الخبز والورد" من حيث الشكل والمطالب والمسببات. ففي 8 آذار 1908، الذي كرس فيما بعد يوما عالميا للمرأة، وبسبب الظروف الاقتصادية المتردية، خرجت الآلاف من عاملات النسيج للتظاهر في نيويورك وهن يحملن الخبز اليابس وباقات الورد، مطالبات بكافة الحقوق الأساسية للمرأة بما في ذلك الحق السياسي والمساواة في ظروف العمل. وقد نجحت المسيرة في دفع المسؤولين والسياسيين إلى طرح مشكلة المرأة العاملة على جداول الأعمال، لتبرز كقضية ملحة لابد من النظر فيها.
وفيما ترمز الوردة إلى الحب والتعاطف والمساواة فإن الخبز يرمز إلى حق العمل والمساواة فيه والى العدالة الاجتماعية وقرع الطناجر الى الجوع وصوت المعدة الخاوية.
ومع انطلاق الثورة اللبنانية، ظهرت مشاركة النساء في كافة فعالياتها بشكل جلي، من القيادة الى التخطيط والتنفيذ اذ أظهرت الدراسات ان الأزمات المالية تؤثر على الرجال والنساء بشكل مختلف، فالنساء والفتيات هن أكثر عرضة لآثار الصدمات الاقتصادية من خلال ازدياد انعدام المساواة على المستويات التعليمية، الصحية والمالية وانعكاساتها الاجتماعية، وخاصة في البلدان المنخفضة الدخل كلبنان المصنف في المرتبة المرتبة ١٤٥ من اصل ١٥٣ دولة وفق تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام ٢٠٢٠، لكن استجابات السياسات العامة نادرا ما تأخذ في الاعتبار ذلك بالرغم من ان الاناث يشكلن ٥١،٦٪ من اللبنانيين وفق ما ورد في دراسة لمديرية الإحصاء المركزي نشرت في كانون الاول ٢٠١٩.
تظهر الأرقام هشاشة وضع النساء في لبنان ويمكننا استشراف الآثار الطويلة الأمد للأزمة الاقتصادية من خلال تجارب دول كفنزويلا، البرازيل، افريقيا الجنوبية و نيجيريا وغيرها.
وفقا لدراسة مديرية الإحصاء المركزي التي أجريت بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، فان الاناث يشكلن ٢٩،٣٪ من القوى العاملة اللبنانية ويتقاضين أجورا أقل من الرجال ويعانين من البطالة بنسبة ١٤،٣٪ وهن غالبا من يفقد الوظائف أولا، مما يجعلهن اكثر الفئات هشاشة وعرضة للفقر.
تواجه النساء أيضًا تمييزًا في التعليم ، فبينما تسجل نسبة الامية ٨،٧٪ بين الاناث مقارنة ب ٤،٤٪ بين الذكور من المتوقع ان ترتفع هذه النسبة مع ازدياد الفقر وشح الموارد، اذ ان احتمالات سحب الفتيات من التعلم وتعرضهن للتزويج المبكر الذي بلغ ٧٪ ترتفع أوقات الأزمات في محاولة الأسر مواجهة الصعوبات المالية. على المدى الطويل، يعرض انخفاض مستويات التعليم النساء أكثر من الرجال للانخراط في وظائف ذات رواتب منخفضة أو في عمل متدني المهارة، وبالتالي يجعلهن أكثر عرضة للأزمات المالية لاحقا. ونظرًا لأن النساء غالبًا ما يتحملن مسؤولية الرعاية غير مدفوعة الأجر للأطفال وأفراد الأسرة المرضى، فإن خياراتهن بشأن العمل المدفوع الأجر الذي يمكنهن القيام به وقوتهن التفاوضية في ظل غيابهن عن مراكز القرار وخاصة في النقابات تكون في الغالب عرضة للخطر، مما يؤدي إلى مستويات أعمق من الفقر وزيادة عدم المساواة لجميع الأفراد.
وفي انعكاس للازمة الاقتصادية الوطنية على المستوى العالمي ادى انكماش السوق المالية إلى فقدان الوظائف للكثير من العاملات المهاجرات من المناطق والبلدان الأكثر فقراً، اذ يخسر هؤلاء ما هو في كثير من الأحيان رزق أسرهن بأكملها كما بدأ يظهر من خلال التظاهرات والمطالبات امام سفارتي اثيوبيا وبنغلادش في لبنان. وينتج عن ذلك ارتفاع ساعات العمل المنزلي وزيادة تعرض النساء للإجهاد البدني والنفسي، في ظل توجههن للبحث عن مصادر إضافية للدخل للتعويض عن ارتفاع الأسعار والتضخم وانخفاض الأجور وهو ما يعرف ب "فقر الوقت" للاستثمار في التعلم وتطوير الذات والتمكين وينعكس على المشاركة الاقتصادية للمرأة. وتشير الدلائل الناتجة عن الازمات الاقتصادية السابقة في العالم إلى أن النساء اللائي يفقدن استقلالهن المالي بسبب فقدان الوظيفة أو انخفاض دخلهن من المرجح أن يتم دفعهن إلى الاستغلال الجنسي أو الاتجار مما يعرضهن للعنف ولمخاطر صحية ونفسية مرتفعة، ولزيادة في اعداد المولودين الذين يتم التخلي عنهم او عرضهم بطرق غير شرعية للتبني كما حصل في افريقيا الجنوبية وفنزويلا.
تزيد هذه المخاطر الاجتماعية والصحية ايضا مع تدابير التقشف التي تعقب الأزمات والتي يتم تطبيقها من قبل المؤسسات الدولية والحكومات الوطنية من خلال التخفيضات في الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والصحية وعلى برامج التمكين الاقتصادي والاجتماعي (إما طوعًا أو كجزء من متطلبات قروض الطوارئ التي يقدمها صندوق النقد الدولي). كما تؤثر المعايير الجنسانية الحالية على القرارات التي يتخذها المقرضون التجاريون ، في ظل مشاكل السيولة في القطاع المالي، حيث من المتوقع ان ينخفض الائتمان للأعمال المملوكة للنساء بسبب الاعتقاد بأنها أكثر خطورة، علما ان النساء يشكلن أغلبية عملاء مؤسسات التمويل الأصغر.
ومع اقفال العديد من المؤسسات أبوابها، او لجوئها الى تدابير تقشفية، قد تحصل النساء في بعض الأحيان على قدر أكبر من الأمن الوظيفي لأنهن يتقاضين أجوراً أقل بشكل غير عادل من نظرائهن من الرجال، وبالرغم من ذلك وبسبب التمييز في قانون الضمان الاجتماعي، فان ازواجهن واولادهن وعوائلهن لا يستفدن من التقديمات الصحية والاجتماعية الا في حالات استثنائية خلافا للرجل. كما انهن قد يتعرضن لنسب اعلى من العنف والتحرش بسبب غياب أي قانون يحميهن وفي ظل حاجتهن للعمل.
اما الثقافة الذكورية وهيمنة معايير "العائل الذكر" او "رب الاسرة" فهي تعرض النساء للخطر خلال فترات الركود الاقتصادي بسبب عملهن في وظائف غير مستقرة (غالبًا ما تكون غير رسمية أو غير متفرغة) والتي تدفع أصحاب العمل إلى إبقاء الذكور وتسريح الموظفات. لذلك ، غالبًا ما تكون النساء أول من يفقد وظائف أو يرى انخفاضًا في الرواتب مقارنة بنظرائهن من الرجال.
كما ان هذه الثقافة وتوقعاتها من المعايير الجنسانية ذات الصلة حول سلوك المرأة قد تضاعف الضرر، فهناك أدلة على أن النساء في كثير من الأحيان هن أول من يتوقف عن الأكل من أجل ضمان توفير الغذاء للعائلة، على الرغم من عواقب ذلك على صحتهن ، بما في ذلك في حالات الحمل وتأثير ذلك على الأمن الغذائي طويل الأجل للأسرة. فالضغوط التقليدية تضع المرأة موضع رمز التضحية بالنفس مما يدفعها حتى الى التقليل من السعي للحصول على الرعاية والخدمات الصحية، مما يعني أنها غالباً ما تتخلى عن الأدوية الأساسية ووسائل منع الحمل معرضة حياتها للخطر في أوقات الشدة الاقتصادية.
يمكن للفقر الاقتصادي أن يؤكد ويصقل التفاوتات بين الجنسين من خلال زيادة اعتماد النساء المالي على الرجال. وهذا يمكن أن يزيد من سلطة الرجل في صنع القرار داخل الأسر، ويزيد من خطر العنف الاسري الذي تساهم في مضاعفته أيضا العوامل والضغوط النفسية.
وبالرغم من العواقب الوخيمة للازمة الاقتصادية على المرأة، ما زالت هناك فرص للنهوض بالمساواة بين الجنسين. فالمساواة بين الجنسين ليست حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان فحسب، او هدفا من اهداف التنمية المستدامة فقط بل ترتبط أيضًا بالأداء الاقتصادي العام للبلد. اذ أشار البنك الدولي الى انه "يمكن للسياسات المستجيبة للأزمات الاقتصادية والتي تبني على دور المرأة كعامل تغيير اقتصادي ان تخفف من الآثار السلبية للأزمات الاقتصادية بسبب تفضيل المرأة لاستثمار الموارد في تلبية الاحتياجات الأساسية لجميع أفراد الاسرة."
ووفقًا لبحث اجراه المنتدى الاقتصادي فانه يمكن للمنظمات التي تشغل فيها النساء ٣٠٪ من المناصب القيادية إضافة ما يصل إلى ٦٪ إلى هوامشها الصافية، وإن عدم القيام بذلك يقلل فقط من فرص النمو الاقتصادي المستمر والابتكار والتقدم الاجتماعي. كما اشارت دراسة معهد ماكنزي الى "ان عدم المساواة في نهاية المطاف ليس مسألة أخلاقية واجتماعية ملحة فحسب ، بل هو تحد اقتصادي حاسم. ومن خلال سيناريو "الإمكانات الكاملة" الذي تلعب فيه المرأة دورًا مماثلاً في أسواق العمل مقارنة بالرجل ، يمكن إضافة ٢٨ تريليون دولار أو ٢٦٪ إلى الناتج المحلي الإجمالي السنوي العالمي بحلول عام ٢٠٢٥."
وفي ظل الازمة الاقتصادية اللبنانية، وما نعانيه من فجوة تبوء النساء اللبنانيات مراكز القرار الاقتصادي والاداري والسياسي، نستذكر قول لكريستين لاجارد حين كانت مديرة لصندوق النقد الدولي في إشارة منها الى افلاس بنك ليمان براذرز وتداعيته على الازمة الاقتصادية العالمية عام ٢٠٠٨ والى دور النساء في تعزيز الاستقرار الاقتصادي: "كما قلت مرات عديدة، لو كانت أخوات ليمان بدلاً من الاخوين ليمان، فقد يبدو العالم مختلفًا كثيرًا اليوم" فهل كان الوضع الاقتصادي والمالي وتداعياته ليكون افضل بوجود نساء في مراكز القرار في لبنان؟ وهل ستأخذ سياسات الحكومة هذا العامل في الحسبان وتعمل على إزالة التمييز والاجحاف تداركا لمزيد من التدهور علما انه ومن خلال سد الفجوة في معدلات المشاركة العمالية بنسبة ٢٥٪، قد يتمكن لبنان من زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنحو ١٠٪ (منظمة العمل الدولية ٢٠١٨)؟ وهل ستشكل الثورة الموجة الرابعة من موجات النسوية اللبنانية؟ ان غدا لناظره لقريب.
نشر في جريدة النهار (*)
Comments
Post a Comment